سورة يونس - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} فإنه العليمُ الخبير {إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين} أي عن عبادتكم لنا، وتركهُ للظهور وللإيذان بكمال الغفلةِ عنها، والغفلةُ عبارةٌ عن عدم الارتضاءِ وإلا فعدمُ شعورِ الملائكةِ بعبادتهم لهم غيرُ ظاهرٍ وهذا يقطع احتمالَ كونِ المرادِ بالشركاء الشياطينَ كما قيل فإن ارتضاءَهم بإشراكهم مما لا ريب فيه وإن لم يكونوا مُجْبِرين لهم على ذلك وإنْ مخففةٌ من إنّ واللامُ فارقة {هُنَالِكَ} أي في ذلك المقام الدهِش، أو في ذلك الوقت على استعارة ظرفِ المكان للزمان {تبلو} أي تختبر وتذوق {تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} مؤمنةً كانت أو كافرةً سعيدةً أو شقية {مَّا أَسْلَفَتْ} من العمل وتعاينه بكُنهه مستتبِعاً لآثاره من نفع أوضُرَ وخيرٍ أو شر، وأما ما علِمتْ من حالها من حين الموتِ والابتلاءِ بالعذاب في البرزخ فأمرٌ مجملٌ وقرئ {نبلو} بنونِ العظمةِ ونصبِ كلُّ وإبدالِ ما منه أي نعاملها معاملةَ من يبلوها ويتعرّفُ أحوالَها من السعادة والشقاوةِ باختبار ما أسلفت من العمل، ويجوزُ أن يُراد نُصيب بالبلاء أي العذاب كلَّ نفسٍ عاصيةٍ بسبب ما أسلفت من الشر فيكون ما منصوبةً بنزع الخافضِ وقرئ {تتلو} أي تتبع لأن عملَها هو الذي يهديها إلى طريق الجنةِ أو إلى طريق النارِ، أو تقرأ في صحيفه أعمالِها ما قدمت من خير أو شر {وَرُدُّواْ} الضمير الذين أشركوا على أنه معطوفٌ على زيلنا وما عطف عليه قوله عز وجل: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ} الخ، اعتراضٌ في أثناء الحكايةِ مقرّرٌ لمضمونها {إِلَى الله} أي جزائه وعقابه {مولاهم} ربِّهم {الحق} أي المتحقق الصادِق ربوبيتُه لا ما اتخذوه باطلاً وقرئ {الحقَّ} بالنصب على المدح كقولهم: الحمدُ لله أهلَ الحمد أو على المصدر المؤكد.
{وَضَلَّ عَنْهُم} وضاع أي ظهر ضَياعُه وضلالُه لا أنه كان قبل ذلك غيرَ ضالٍ، أو ضل في اعتقادهم أيضاً {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من أن آلهتَهم تشفع لهم أو ما كانوا يدعون أنها آلهةٌ، هذا وجُعل الضميرُ في رُدوا للنفوسِ المدلولِ عليها بكل نفسٍ على أنه معطوفٌ على تبلو وأن العدولَ إلى الماضي للدِلالة على التحقق والتقرر، وأن إيثارَ صيغةِ الجمعِ للإيذان بأن ردّهم إلى الله يكون على طريقة الاجتماعِ لا يلائمه التعرُّض لوصف الحقيةِ في قوله تعالى: {مولاهم الحق} فإنه للتعريض بالمردودين حسبما أشير إليه، ولئن اكتُفيَ فيه بالتعريض ببعضهم أو حُمل {الحقِّ} على معنى العدل في الثواب والعقاب فقوله عز وجل: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} مما لا مجال فيه للتدارك قطعاً، فإن ما فيه من الضمائر الثلاثةِ للمشركين فليزم التفكيكُ حتماً وتخصيصُ {كلُّ نفس} بالنفوس المشتركةِ مع عموم البلوى للكل يأباه مقامُ تهويلِ المقام والله تعالى أعلم.


{قُلْ} أي لأولئك المشركين الذين حُكيت أحوالُهم وبيّن ما يؤدي إليه أعمالُهم احتجاجاً على حقية التوحيدِ وبُطلانِ ما هم عليه من الإشراك {مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض} أي منهما جميعاً فإن الأرزاقَ تحصُل بأسباب سماوية وموادَّ أرضيةٍ أو من كل واحدة منهما توسعةً عليكم وقيل: مِنْ لبيان كلمة مَنْ على حذف المضافِ أي مِنْ أهل السماء والأرض {أَم مَّنْ يَمْلِكُ السمع والابصار} أم منقطعةٌ وما فيها من كلمة بل للإضراب عن الاستفهام الأولِ لكن لا على طريقة الإبطالِ بل على وجه الانتقالِ وصرفِ الكلام عنه إلى استفهام آخرَ تنبيهاً على كفايته فيما هو المقصودُ، أي من يستطيع خلقَهما وتسويتَهما على هذه الفطرةِ العجبيةِ أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالِهما من أدنى شيءٍ يصيبهما {وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} أي ومن يحيي ويميت أو ومن ينشىء الحيوانَ من النطفة والنطفةَ من الحيوان {وَمَن يُدَبّرُ الامر} أي ومن يلي تدبيرَ أمرِ العالم جميعاً، وهو تعميمٌ بعد تخصيصِ بعضِ ما اندرج تحته من الأمور الظاهرةِ بالذكر {فَسَيَقُولُونَ} بلا تلعثم ولا تأخير {الله} إذ لا مجال للمكابرة لغاية وضوحِه، والخبرُ محذوف أي الله يفعل ما ذكر من الأفاعيل لا غيرُه.
{فَقُلْ} عند ذلك تبكيتاً لهم {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} الهمزةُ لإنكار عدمِ الاتقاء بمعنى إنكارِ الواقع كما في أتضرب أباك؟ لا بمعنى إنكار الوقوع في أأضربُ أبي؟ والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظمُ الكريمُ أي أتعلمون ذلك فلا تقون أنفسَكم عذابَه الذي ذَكر لكم بما تتعاطَونه من إشراككم به ما لا يشاركه في شيء مما ذُكر من خواصّ الإلهية.


{فَذَلِكُمُ} فذلكةٌ لما تقدم أي ذلكم الذي اعترفتم باتصافه بالنعوت المذكورةِ وهو مبتدأٌ وقوله تعالى: {الله} خبرُه وقوله تعالى: {رَبُّكُمْ} أي مالكُكم ومتولي أمورِكم على الإطلاق بدلٌ منه أو بيان له، وقوله تعالى: {الحق} صفةٌ له أي ربكم الثابتُ ربوبيتُه والمتحققُ ألوهيتُه تحققاً لا ريب فيه {فَمَاذَا} يجوز أن يكون الكلُّ اسماً واحداً قد غلب فيه الاستفهامُ على اسم الإشارةِ وأن يكون ذا موصولاً بمعنى الذي أي ما الذي {بَعْدَ الحق} أي غيرُه بطريق الاستعارةِ، وإظهارُ الحق إما لأن المرادَ به غيرُ الأول وإما لزيادة التقريرِ ومراعاةِ كمالِ المقابلةِ بينه وبين الضلالِ، والاستفهامُ إنكاريٌّ بمعنى الوقوعِ ونفيِه أي ليس غيرُ الحق {إِلاَّ الضلال} الذي لا يختاره أحدٌ فحيث ثبت أن عبادةَ من هو منعوتٌ بما ذكر من النعوت الجميلةِ حقٌّ ظهر أن ما عداها من عبادة الأصنامِ ضلالٌ محضٌ إذ لا واسطة بينهما، وإنما سُميت ضلالاً مع كونها من أعمال الجوارحِ باعتبار ابتنائِها على ما هو ضلالٌ من الاعتقاد، والرأيُ هذا على تقدير كونِ الحقِّ عبارةً عن التوحيد، وأما على تقدير كونِه عبارةً عن الأول فالمرادُ بالضلال هو الأصنامُ لا عبادتُها، والمعنى فماذا بعد الربِّ الحقِّ الثابتِ ربوبيّتُه إلا الضلالُ أي الباطلُ الضائعُ المضمحلُّ، وإنما سمي بالمصدر مبالغةً كأنه نفسُ الضلالِ والضياعِ وهذا أنسبُ بقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} على التفسير الثاني.
{فأنى تُصْرَفُونَ} استفهامٌ إنكاريٌّ بمعنى إنكارِ الواقعِ واستبعادِه والتعجيبِ منه، وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكارِ إلى نفس الفعلِ لأن كلَّ موجودٍ لا بد من أن يكون وجودُه على الحال من الأحوال قطعاً فإذا انتفى جميعُ أحوالِ وجودِه فقد انتفى وجودُه على الطريق البرهاني كما مر مراراً، والفاءُ لترتيب الإنكارِ على ما قبله أي كيف تُصرفون من الحق الذي لا محيدَ عنه وهو التوحيدُ إلى الضلال عن السبيل المستبينِ وهو الإشراكُ وعبادةُ الأصنام أو من عبادة ربكم الحقِّ الثابتِ ربوبيتُه إلى عبادة الباطلِ الذي سمعتم ضلالَه وضياعَه في الآخرة، وفي إيثار صيغةِ المبنيِّ للمفعول إيذانٌ بأن الانصرافَ من الحق إلى الضلال مما لا يصدُر عن العاقل بإرادته وإنما يقع عند وقوعِه بالقسر من جهة صارفٍ خارجيَ.
{كذلك} أي كما حقت الربوبيةُ لله تعالى أو كما أنه ليس بعد الحقِّ إلا الضلالُ أو أنهم مصروفون عن الحق {حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ} وحكمُه وقضاؤُه {عَلَى الذين فَسَقُواْ} أي تمردوا في الكفر وخرجوا من أقصى حدودِه {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بدلُ الكلمةِ أو تعليلٌ لحقيتها والمرادُ بها العِدَةُ بالعذاب.
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ} احتجاجٌ آخرُ على حقية التوحيدِ وبطلانِ الإشراكِ بإظهار كونِ شركائِهم بمعزل من استحقاق الإلهية ببيان اختصاصِ خواصِّها من بدء الخلقِ وإعادتِه به سبحانه وتعالى وإنما لم يُعطف على ما قبله إيذاناً باستقلاله في إثبات المطلوبِ، والسؤالُ للتبكيت والإلزامِ وقد جُعلت أهليةُ الإعادةِ وتحققُها لوضوح مكانِها وسُنوحِ برهانِها بمنزلة بدءِ الخلقِ فنُظمت في سلكه حيث قيل: {مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} إيذاناً بتلازمهما وجوداً وعدماً يستلزم الاعترافَ بها وإن صدهم عن ذلك ما بهم من المكابرة والعِناد، ثم أُمر عليه الصلاة والسلام بأن يبين لهم مَنْ يفعل ذلك فقيل له: {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي هو يفعلهما لا غيرُ كائناً ما كان لا بأن ينوبَ عليه الصلاة والسلام عنهم في ذلك كما قيل لأن القولَ المأمورَ به غيرُ ما أريد منهم من الجواب وإن كان مستلزِماً له إذ ليس المسؤولُ عنه مَنْ يبدأ الخلق ثم يعيده كما في قوله تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السموات والارض قُلِ الله} حتى يكونَ القولُ المأمورُ بين عينِ الجوابِ الذي أريد منهم ويكونَ عليه الصلاة والسلام نائباً عنهم في ذلك بل إنما هو وجودُ مَنْ يفعل البدءَ والإعادةَ من شركائهم فالجوابُ المطلوبُ منهم لا غير نعم أمر عليه الصلاة والسلام بأن يضمِّنه مقالتَه إيذاناً بتعينه وتحققِه وإشعاراً بأنهم لا يجترئون على التصريح به مخافةَ التبكيتِ وإلقامِ الحجر لا مكابرةً ولَجاجاً فتدبر. وإعادهُ الجملةِ في الجواب السابق لمزيد التأكيدِ والتحقيق {فأنى تُؤْفَكُونَ} الإفكُ الصرْفُ والقلبُ عن الشيء وقد يُخصّ بالقلب عن الرأي وهو الأنسبُ بالمقام أي كيف تُقلبون من الحق إلى الباطل، والكلامُ فيه كما ذكر في تُصرفون.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11